حفل تخرج مستلب- بين اللغة والهوية والإسراف
المؤلف: نجيب يماني11.19.2025

مع إشراقة العودة الميمونة إلى مقاعد الدراسة، يغدو لزامًا علينا أن نغرس في نفوس جيل المستقبل لبنات الفكر المستنير، الذي يواكب المتغيرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا المعاصر، بعيدًا عن التبسيط والضحالة. وتأتي في مقدمة الأولويات إدماج حزمة متكاملة من المهارات الذهنية والتقنية، وتعزيز الاعتزاز الراسخ بالهوية الأصيلة، وإعادة تقييم وتبديل بعض العادات والمسلمات الفكرية التي لم تعد تتواءم مع واقعنا المعيش، الذي جعلنا رقمًا فاعلًا ومؤثرًا في هذا العالم المترابط. ولا يفوتنا أن نتوقف مليًا عند دروس الماضي القريب، واستخلاص العبر القيمة التي تنير لنا دروب المستقبل وتجنبنا الوقوع في الأخطاء السابقة.
إنّ إتقان اللغات الأجنبية، في عصر العولمة والانفتاح اللامحدود، لم يعد ترفًا بل ضرورة ملحة، تستدعيها الحاجة المتزايدة إلى التواصل الفعال، وتداخل المصالح، وتحقيق الطموحات المستقبلية التي تتطلع إليها المملكة العربية السعودية، مستلهمةً رؤيتها الطموحة. ففي ظل التطورات المتسارعة في ميادين العلوم والتكنولوجيا والمعارف، التي تسطر بلغاتها الأصلية، يصبح تعلم هذه اللغات مفتاحًا أساسيًا لفهم واستيعاب هذه العلوم والمعارف، خصوصًا مع محدودية الترجمة وعدم قدرتها على تغطية كل ما هو جديد ومبتكر.
إلا أنّ اللافت للنظر والمثير للتساؤل، هو أنّ إتقان اللغات الأجنبية لا يستلزم بالضرورة استيراد سلوكيات وعادات أصحاب تلك اللغات، والانجراف وراء تقليد أساليبهم في الحياة، إلى الحد الذي يطمس فيه ملامح هويتنا، ونتخلى عن قيمنا العربية الأصيلة، ونرتدي ثوبًا أجنبيًا حتى في احتفالاتنا ومناسباتنا الخاصة.
وهذا تحديدًا ما عايشته بنفسي، في تلك الأمسية التي اصطحبت فيها حفيدتي العزيزة، مريم جمجوم، لحضور حفل تخرجها من إحدى المدارس الدولية المرموقة في مدينة جدة.
عندما وطأت قدماي ساحة الحفل، شعرت ببهجة غامرة، الأمهات والآباء يشاركون أبناءهم وبناتهم فرحة التخرج والانتقال إلى مرحلة دراسية جديدة ومفعمة بالتحديات، والابتسامات الصادقة تعلو الوجوه، والفرحة تملأ القلوب، وسط أجواء من التقدير والاحترام المتبادل.
كل تفصيل في المشهد يعكس لوحة فنية بديعة ومتناسقة، قاعة واسعة رحبة، يتمركز عند مدخلها فريق استقبال بوجوه مشرقة وابتسامات آسرة، يرحبون بالضيوف بعبارات التقدير والثناء، وفي قلب القاعة تتألق شاشة عرض عملاقة، تعلو مسرحًا فخمًا، تم تصميمه وفقًا للمعايير العالمية، مع مراعاة أدق التفاصيل التقنية من حيث الصوت والإضاءة والصورة، وأضواء الليزر التي أضفت على المكان هالة من الجمال والسحر، ورسمت في الأجواء صورًا رائعة بألوان زاهية، تصاحبها موسيقى غربية هادئة.
بدأ الحفل بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، بصوت إحدى الطالبات، مما يوحي بأننا بصدد حفل عربي أصيل، ولكن سرعان ما تبدل المشهد، وانقلب رأسًا على عقب، فما تلا ذلك من فقرات قدم باللغة الإنجليزية، وبحرص شديد على الالتزام بقواعدها النحوية والصرفية، وبلكنة تكاد تضاهي لغة أهلها، وهو نفس الحرص الذي أبدته الخريجات المتفوقات وأعضاء هيئة التدريس، وهن يعبرن بالإنجليزية المستوردة عن فرحتهن "العربية" العميقة. والأدهى من ذلك، أنّ اللغة العربية عندما حضرت، كان حضورها خجولًا ومترددًا في بعض الفقرات، ولم تسلم قواعدها من التشويه والتحريف، حتى من قبل المعلمات أنفسهن، فرفعن المجرور، ونصبن المكسور، وخفضن المرفوع، دون أدنى شعور بالحرج أو الخجل، وكأنّ ذلك يحدث في لحظة زهو وتجلي لـ "الانسلاخ" عن الهوية، وكأننا في حفل تنكر للأصول، وترسيخ ممنهج لـ "الاستلاب" الثقافي.
أطلقت العنان لخيالي، وأخذت أتأمل الحضور، أغلبهم من أبناء الوطن، آباء وأمهات يشاركون بناتهم فرحة التخرج واستقبال مرحلة جديدة من حياتهن، فما الذي دفعهم إلى هذا الاستلاب غير المبرر؟ هل فعلًا صدقت نظريات علم اللغة الحديثة، التي ترى أنّ للغة وبنيتها وعلاقتها بالتفكير دورًا حاسمًا في سلوك الإنسان، كما ذهب إليه البروفيسور ديريك بيكرتون، الذي ناقش هذا الموضوع باستفاضة في جامعة واشنطن في محاضراته الثلاث الشهيرة عام 1992، والتي جمعها لاحقًا في كتاب تحت عنوان "اللغة وسلوك الإنسان"، وخلاصة ما توصل إليه "أنّ عملية التفكير والذكاء لم تكن لتتحقق لولا امتلاك الإنسان للغة بصورتها الإنسانية".
وإذا كان الأمر كذلك، فكان الأجدر بهؤلاء القوم أن تكون "العربية" حاضرة وبقوة في سلوكهم، ولو في مظهر الاحتفال فقط!
هل تخلفت "العربية" اليوم عن ركب التطور العلمي، ومضمار التقدم التقني، لتبقى حبيسة الادعاء بأنها لغة آداب وفنون فقط، وليست لغة علم واختراع واكتشاف؟
هل نلوم هؤلاء الشباب والشابات وقد وجدوا في الإنجليزية وغيرها من اللغات طرقًا أيسر للتعبير عن روح العصر، قصرت عنها "العربية"، التي ما زالت طرق تدريسها غير ملائمة لمتطلبات العصر الحديث؟!
أسئلة كثيرة كانت تتزاحم في ذهني، والحفل مستمر في بهجته المستلبة، إرضاء لـ "قلة" من الأجانب الحاضرين، فهل كان إرضاؤهم على حساب ثوابتنا وقيمنا، وهم الذين لا يعيرون لذلك أي اهتمام؟
لقد حضرت حفلات تخرج مماثلة لأبنائنا في الخارج، ولم نشهد فيها أي مظاهر عربية، ولو من باب المجاملة!
أفقت من شرودي على صوت نسائي رقيق، بنبرة "إنجليزية" متقنة، ينادي على حفيدتي مريم لتكريمها، بوصفها إحدى الناجحات المتفوقات.
لم أود في تلك اللحظة أن أفسد عليها فرحة النجاح، وإن كنت في أعماقي أردت أن أهمس في أذن المعلمات، بنصيحة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "تعلّموا العربية فإنها تثبّت العقلَ، وتزيدُ في المروءة".
ويمتد عتبي إلى المسؤولين عن تربية النشء، سواء في البيت أو المدرسة، عن الإسراف المبالغ فيه حد التبذير في إقامة حفلات التخرج.
فبعد ليلة الفرح في رحاب المدرسة، أقيم حفل آخر في إحدى القاعات الفخمة، بلغت تكلفته أرقامًا فلكية، جمعت من الطالبات اللاتي أرهقن أولياء أمورهن بطلباتهن ودفع حصصهن للمشاركة، بالإضافة إلى الفساتين الباهظة الثمن من المطرزات والشيفونات الفرنسية والحرير الطبيعي، فضلًا عن تكاليف الكوافيرات وخبراء التجميل لوضع اللمسات الأخيرة من كل ألوان الطيف على الطالبات وأمهاتهن والحضور، ودعوة مطربة أفراح وليال ملاح، وإعداد بوفيه فاخر يكفي لإطعام قرية بأكملها.
كان الأجدر أن يخصص هذا المبلغ الطائل لعمل خيري، يبقى أثره ممتدًا، ويكتب أجره باسم الخريجين، بدلًا من هذا الإسراف المبالغ فيه، وبموافقة مسؤولي المدرسة وأولياء الأمور.
لقد تحولت حفلة نهاية العام الدراسي إلى بدعة مستشرية في المجتمع، حتى للمراحل المتوسطة والابتدائية، مما أفقد روب التخرج وقبعته قيمتهما المعنوية.
رحم الله زمانًا مضى، كانت مكافأة النجاح فيه قلم باركر فاخر، أو محفظة جلدية أنيقة، ورحلة عائلية إلى المدينة المنورة أو الطائف، لنقطف التوت اللذيذ ونأكل البرشومي الشهي.
إنّ إتقان اللغات الأجنبية، في عصر العولمة والانفتاح اللامحدود، لم يعد ترفًا بل ضرورة ملحة، تستدعيها الحاجة المتزايدة إلى التواصل الفعال، وتداخل المصالح، وتحقيق الطموحات المستقبلية التي تتطلع إليها المملكة العربية السعودية، مستلهمةً رؤيتها الطموحة. ففي ظل التطورات المتسارعة في ميادين العلوم والتكنولوجيا والمعارف، التي تسطر بلغاتها الأصلية، يصبح تعلم هذه اللغات مفتاحًا أساسيًا لفهم واستيعاب هذه العلوم والمعارف، خصوصًا مع محدودية الترجمة وعدم قدرتها على تغطية كل ما هو جديد ومبتكر.
إلا أنّ اللافت للنظر والمثير للتساؤل، هو أنّ إتقان اللغات الأجنبية لا يستلزم بالضرورة استيراد سلوكيات وعادات أصحاب تلك اللغات، والانجراف وراء تقليد أساليبهم في الحياة، إلى الحد الذي يطمس فيه ملامح هويتنا، ونتخلى عن قيمنا العربية الأصيلة، ونرتدي ثوبًا أجنبيًا حتى في احتفالاتنا ومناسباتنا الخاصة.
وهذا تحديدًا ما عايشته بنفسي، في تلك الأمسية التي اصطحبت فيها حفيدتي العزيزة، مريم جمجوم، لحضور حفل تخرجها من إحدى المدارس الدولية المرموقة في مدينة جدة.
عندما وطأت قدماي ساحة الحفل، شعرت ببهجة غامرة، الأمهات والآباء يشاركون أبناءهم وبناتهم فرحة التخرج والانتقال إلى مرحلة دراسية جديدة ومفعمة بالتحديات، والابتسامات الصادقة تعلو الوجوه، والفرحة تملأ القلوب، وسط أجواء من التقدير والاحترام المتبادل.
كل تفصيل في المشهد يعكس لوحة فنية بديعة ومتناسقة، قاعة واسعة رحبة، يتمركز عند مدخلها فريق استقبال بوجوه مشرقة وابتسامات آسرة، يرحبون بالضيوف بعبارات التقدير والثناء، وفي قلب القاعة تتألق شاشة عرض عملاقة، تعلو مسرحًا فخمًا، تم تصميمه وفقًا للمعايير العالمية، مع مراعاة أدق التفاصيل التقنية من حيث الصوت والإضاءة والصورة، وأضواء الليزر التي أضفت على المكان هالة من الجمال والسحر، ورسمت في الأجواء صورًا رائعة بألوان زاهية، تصاحبها موسيقى غربية هادئة.
بدأ الحفل بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، بصوت إحدى الطالبات، مما يوحي بأننا بصدد حفل عربي أصيل، ولكن سرعان ما تبدل المشهد، وانقلب رأسًا على عقب، فما تلا ذلك من فقرات قدم باللغة الإنجليزية، وبحرص شديد على الالتزام بقواعدها النحوية والصرفية، وبلكنة تكاد تضاهي لغة أهلها، وهو نفس الحرص الذي أبدته الخريجات المتفوقات وأعضاء هيئة التدريس، وهن يعبرن بالإنجليزية المستوردة عن فرحتهن "العربية" العميقة. والأدهى من ذلك، أنّ اللغة العربية عندما حضرت، كان حضورها خجولًا ومترددًا في بعض الفقرات، ولم تسلم قواعدها من التشويه والتحريف، حتى من قبل المعلمات أنفسهن، فرفعن المجرور، ونصبن المكسور، وخفضن المرفوع، دون أدنى شعور بالحرج أو الخجل، وكأنّ ذلك يحدث في لحظة زهو وتجلي لـ "الانسلاخ" عن الهوية، وكأننا في حفل تنكر للأصول، وترسيخ ممنهج لـ "الاستلاب" الثقافي.
أطلقت العنان لخيالي، وأخذت أتأمل الحضور، أغلبهم من أبناء الوطن، آباء وأمهات يشاركون بناتهم فرحة التخرج واستقبال مرحلة جديدة من حياتهن، فما الذي دفعهم إلى هذا الاستلاب غير المبرر؟ هل فعلًا صدقت نظريات علم اللغة الحديثة، التي ترى أنّ للغة وبنيتها وعلاقتها بالتفكير دورًا حاسمًا في سلوك الإنسان، كما ذهب إليه البروفيسور ديريك بيكرتون، الذي ناقش هذا الموضوع باستفاضة في جامعة واشنطن في محاضراته الثلاث الشهيرة عام 1992، والتي جمعها لاحقًا في كتاب تحت عنوان "اللغة وسلوك الإنسان"، وخلاصة ما توصل إليه "أنّ عملية التفكير والذكاء لم تكن لتتحقق لولا امتلاك الإنسان للغة بصورتها الإنسانية".
وإذا كان الأمر كذلك، فكان الأجدر بهؤلاء القوم أن تكون "العربية" حاضرة وبقوة في سلوكهم، ولو في مظهر الاحتفال فقط!
هل تخلفت "العربية" اليوم عن ركب التطور العلمي، ومضمار التقدم التقني، لتبقى حبيسة الادعاء بأنها لغة آداب وفنون فقط، وليست لغة علم واختراع واكتشاف؟
هل نلوم هؤلاء الشباب والشابات وقد وجدوا في الإنجليزية وغيرها من اللغات طرقًا أيسر للتعبير عن روح العصر، قصرت عنها "العربية"، التي ما زالت طرق تدريسها غير ملائمة لمتطلبات العصر الحديث؟!
أسئلة كثيرة كانت تتزاحم في ذهني، والحفل مستمر في بهجته المستلبة، إرضاء لـ "قلة" من الأجانب الحاضرين، فهل كان إرضاؤهم على حساب ثوابتنا وقيمنا، وهم الذين لا يعيرون لذلك أي اهتمام؟
لقد حضرت حفلات تخرج مماثلة لأبنائنا في الخارج، ولم نشهد فيها أي مظاهر عربية، ولو من باب المجاملة!
أفقت من شرودي على صوت نسائي رقيق، بنبرة "إنجليزية" متقنة، ينادي على حفيدتي مريم لتكريمها، بوصفها إحدى الناجحات المتفوقات.
لم أود في تلك اللحظة أن أفسد عليها فرحة النجاح، وإن كنت في أعماقي أردت أن أهمس في أذن المعلمات، بنصيحة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "تعلّموا العربية فإنها تثبّت العقلَ، وتزيدُ في المروءة".
ويمتد عتبي إلى المسؤولين عن تربية النشء، سواء في البيت أو المدرسة، عن الإسراف المبالغ فيه حد التبذير في إقامة حفلات التخرج.
فبعد ليلة الفرح في رحاب المدرسة، أقيم حفل آخر في إحدى القاعات الفخمة، بلغت تكلفته أرقامًا فلكية، جمعت من الطالبات اللاتي أرهقن أولياء أمورهن بطلباتهن ودفع حصصهن للمشاركة، بالإضافة إلى الفساتين الباهظة الثمن من المطرزات والشيفونات الفرنسية والحرير الطبيعي، فضلًا عن تكاليف الكوافيرات وخبراء التجميل لوضع اللمسات الأخيرة من كل ألوان الطيف على الطالبات وأمهاتهن والحضور، ودعوة مطربة أفراح وليال ملاح، وإعداد بوفيه فاخر يكفي لإطعام قرية بأكملها.
كان الأجدر أن يخصص هذا المبلغ الطائل لعمل خيري، يبقى أثره ممتدًا، ويكتب أجره باسم الخريجين، بدلًا من هذا الإسراف المبالغ فيه، وبموافقة مسؤولي المدرسة وأولياء الأمور.
لقد تحولت حفلة نهاية العام الدراسي إلى بدعة مستشرية في المجتمع، حتى للمراحل المتوسطة والابتدائية، مما أفقد روب التخرج وقبعته قيمتهما المعنوية.
رحم الله زمانًا مضى، كانت مكافأة النجاح فيه قلم باركر فاخر، أو محفظة جلدية أنيقة، ورحلة عائلية إلى المدينة المنورة أو الطائف، لنقطف التوت اللذيذ ونأكل البرشومي الشهي.
